كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما قوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرًا على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية، ووجوه نقلية.
أما العقلية فأمور: أولها: أنه لو كان مستقرًا على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيًا وإلا لزم كون العرش داخلًا في ذاته وهو محال، وكل ما كان متناهيًا فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري، فلو كان الباري تعالى متناهيًا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيًا، ولو كان كذلك لكان محدثًا وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالًا.
وثانيها: لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات، وإما أن يكون متناهيًا في كل الجهات.
وإما أن يكون متناهيًا من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعًا.
بيان فساد القسم الأول: أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية، وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات، وتعالى الله عنه، وأيضًا فعلى هذا التقدير: تكون السموات حالة في ذاته، وتكون الأرض أيضًا حالة في ذاته.
إذا ثبت هذا فنقول: الشيء الذي هو محل السموات، إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره، فإن كان الأول لزم كون السموات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلًا، وكل حالين حلا في محل واحد، لم يكن أحدهما ممتازًا عن الآخر، فلزم أن يقال: السموات لا تمتاز عن الأرضين في الذات، وذلك باطل، وإن كان الثاني: لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال.
والثالث: وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات، فإما أن يقال: الشيء الذي حصل فوق هو عين الشيء الذي حصل تحت، فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة، وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضًا حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة؟ وهو محال في بديهة العقل.
وأما إن قيل: الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت، فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال.
وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: أنه تعالى متناه من كل الجهات.
فنقول: كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين، لأجل تخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وأيضًا فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديمًا أزليًا فاعلًا للعالم، فلم لا يعقل أن يقال: خالق العالم هو الشمس، أو القمر، أو كوكب آخر، وذلك باطل باتفاق.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقال: أنه متناه من بعض الجوانب، وغير متناه من سائر الجوانب، فهذا أيضًا باطل من وجوه: أحدها: أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهيًا غير ما صدق عليه كونه غير متناه، وإلا لصدق النقيضان معًا وهو محال.
وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركبًا من الأجزاء والأبعاض، وثانيها: أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهيًا، إما أن يكون مساويًا للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه، وإما أن لا يكون كذلك، والأول باطل، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي، وإذا كان كذلك: فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهيًا، والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه، ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكنًا، وكل ما كان كذلك فهو محدث، وذلك على الإله القديم محال، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلًا في الحيز والجهة، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهيًا من كل الجهات، أو كان متناهيًا من بعض الجهات، وغير متناه من سائر الجهات، فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة، فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلًا في الحيز والجهة محال.
والبرهان الثالث: لو كان الباري تعالى حاصلًا في المكان والجهة، لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجودًا مشارًا إليه، وإما أن لا يكون كذلك، والقسمان باطلان، فكان القول بكونه تعالى حاصلًا في الحيز والجهة باطلًا.
أما بيان فساد القسم الأول: فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجودًا مشارًا إليه، فحينئذ يكون المسمى بالحيز والجهة بعدًا وامتداد، والحاصل فيه أيضًا يجب أن يكون له في نفسه بُعْدُ وامتداد، وإلا لامتنع حصوله فيه، وحينئذ يلزم تداخل البعدين، وذلك محال للدلائل الكثيرة، المشهورة في هذا الباب، وأيضًا فيلزم من كون الباري تعالى قديمًا أزليًا كون الحيز والجهة أزليين، وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى، وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل.
وأما بيان فساد القسم الثاني: فهو من وجهين: أحدهما: أن العدم نفي محض، وعدم صرف، وما كان كذلك امتنع كونه ظرفًا لغيره وجهة لغيره.
وثانيهما: أن كل ما كان حاصلًا في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره، فلو كانت تلك الجهة عدمًا محضًا لزم كون العدم المحض مشارًا إليه بالحس، وذلك باطل، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلًا في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطلين، فوجب أن يكون القول به باطلًا.
فإن قيل: فهذا أيضًا وارد عليكم في قولكم: الجسم حاصل في الحيز والجهة.
فنقول: نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزًا ولا جهة أصلًا ألبتة، بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه، بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى، فسقط هذا السؤال.
البرهان الرابع: لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصًا بالحيز والجهة، لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز، لزم كونه ممكنًا لذاته، ولما كان هذا محالًا كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالًا.
بيان المقام الأول: هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى، إلا إذا كان مختصًا بالحيز والجهة.
فنقول: لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى، فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها، وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره، كان ممكنًا لذاته.
والدليل عليه: أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه، والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه، فلو كان الواجب لذاته مفتقرًا إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان، وهو محال.
فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكنًا لذاته، لا واجبًا لذاته، وذلك محال.
والوجه الثاني: في تقرير هذه الحجة: هو أن الممكن محتاج إلى الحَيّز والجهة.
أما عند من يثبت الخلاء.
فلا شك أن الحيز والجِهة تتقرر مع عدم التمكن، وأما عند من ينفي الخلاء فلا، لأنه وإن كان معتقدًا أنه لابد من متمكن يحصل في الجهة، إلا أنه لا يقول بأنه لابد لتلك الجهة من متمكن معين، بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلًا لذلك الحيز.
إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز، وكان ذلك الحيز غنيًا تحققه عن ذات الله تعالى وحينئذ يلزم أن يقال: الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا: الإله تعالى واجب الوجود لذاته.
فإن قيل: الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه.
فنقول: هذا باطل قطعًا لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل المحسوسات، وذلك لا يقوله عاقل.
البرهان الخامس: في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصًا بالحيز والجهة نقول: الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض، والخلاء الصرف، وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه ألبتة.
وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية.
وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان الإله تعالى مختصًا بحيز، لكان محدثًا، وهذا محال؛ فذاك محال.
وبيان الملازمة: أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية، فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به، لأجل أن مخصصًا خصصه بذلك الحيز وكل ما كان فعلًا لفاعل مختار، فهو محدث فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثًا، فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز، وثبت أن الحصول في الحيز محدث، وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث، لزم القطع بأنه لو كان حاصلًا في الحيز لكان محدثًا، ولما كان هذا محالًا كان ذلك أيضًا محالًا.
فإن قالوا: الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل، فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو؟ فنقول: هذا باطل، لأن كون بعض تلك الجهات علو، وبعضها سفلًا، أحوال لا تحصل، إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم، فلما كان هذا العالم محدثًا كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار، بل ليس إلا الخلاء المحض، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه، وأيضًا لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب؟ فلم لا يعقل أيضًا أن يقال: إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب؟ وعلى هذا التقدير، فذلك اسم لا يكون قابلًا للحركة والسكون، فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام، والقائل بهذا القول، لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون، والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم.
البرهان السادس: لو كان الباري تعالى حاصلًا في الحيز والجهة لكان مشارًا إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك، فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة.
فإن قلنا: إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس، مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة، كان ذلك نقطة لا تنقسم، وجوهرًا فردًا لا ينقسم، فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة، وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء، وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك، والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ، فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل، وأيضًا فلو جاز ذلك، فلم لا يعقل أن يقال: إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة، أو ذرة ملتصقة بذنب قملة، أو نملة؟ ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء، فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه.
وأما القسم الثاني: وهو أنه يقبل القسمة، فنقول: كل ما كان كذلك، فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر، وذلك على الإله الواجب لذاته محال.